القصيم.. تراث عريق وحاضر مشرق (1/3)
(مشروعات في بريدة للتراث والحضارة)
في يوم الخميس:25/1/1430هـ تفضل مجموعة من مديري المعاهد الفنية الصناعية بالمملكة بزيارة ودّية إلى منطقة القصيم بضيافة زملائهم من منطقة القصيم وكاتب هذه السطور أحدهم، وقد تخلل تلك الزيارة الوديّة جولة في العاصمة وبعض المحافظات من أجل الإطلاع على معالم منطقة القصيم الأثرية والحضارية والتمتع بمشاهدتها مع الشرح الوافي عنها، وحيث أنني من المستضيفين للزملاء وكانت الزيارة حافلة بالود والمحبة وزار الزملاء مجموعة من المعالم في بريدة وعنيزة والرس والبدائع أحببت أن أتحدث عن تلك الزيارة وعن المعالم الحضارية والأثرية في المنطقة والتي شملتها الزيارة فأبدأ بمتحف مدينة بريدة ومعلم آخر فيها.
يعتبر هذا المتحف صرحا حضاريا وتراثيا مهما ودعما للسياحة الوطنية في المنطقة، فقد أنشأه أهالي بريدة ليكون من معالمها الثقافية والحضارية ويكون له دور في إثراء السياحة في المنطقة، وقد أنشئ المتحف بإشراف من أمانة مدينة بريدة وبدعم ومتابعة من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة القصيم حيث تفضّل سموه بافتتاح المتحف يوم الاثنين الموافق:20/11/1419 ويضم عددا من القاعات والأجنحة التي تضم المعروضات المنوعة من تراثية وعلمية وثقافية وتاريخية. ومن المعروضات التي يحتويها المعرض: سيارة الملك عبد العزيز رحمه الله (كاديلاك 1951م) التي تقابل الزوار في مدخل المتحف وتقف شاهقة تحكي سيرة بطل خاض معارك التأسيس لهذا الكيان الكبير ووحّده على المحبة والألفة وهيأ لشعبه سبل العيش الكريم وأشاع في بلاده الأمن والأمان والحياة الكريمة. ثم صالة المتحف الأثري الذي يضم قطعا كثيرة من تراث الأجداد من الأواني والملابس التي كانوا يستخدمونها في حياتهم السابقة فكانت في وقتنا الحاضر رمزا على حياتهم التي يكتنفها الفقر والحاجة وشظف العيش وما كانوا عليه من التضحية والفداء، حيث شاهدنا أنواع البنادق مثل: المقمّع والصمعا وأم إصبع وأنواع السيوف والسراج والمكوى والدافور والمبخرة والرحى والميقعة والنقيرة ومطحنة البن والهيل اليدوية ورفّ الخشب والراديو القديم والمنفاخ وأنواع الحلي والمجوهرات وأدوات الزينة والميزان والكتب والمكرّة والمحّالة والمحقان والصحفة والصينية وسفرة الخوص، وغرفة النوم القديمة وفيها الدوشق والمضرّب والوسادة والتسريحة القديمة وعليها أنواع العطور ومنها الفتشة والخلولة والمرشّ والمكحلة والمراية وصندوق العروسة وحولها ثياب الزوج والزوجة معلقة بالوتد. كذلك شاهدنا في المتحف: المحدرة والزبيل والمحّالة والغرب والدلو والسقا والمطعمة والقرو والجراب والقربة والقنّارة والشداد والصاع والنصيف، كذلك الرّبَيْع والملبن والمنخل والسجّادة والبساط والخصّاف والبيدي والمغزل والمزودة والمنشار والفاروع والمحمل والمخلب والزير والمهراس ومروحة النار اليدوية القديمة والمجرى والسكّرة والمبخرة والدلّة وابريق الغرش والمطبقية، وشاهدنا أنواع لوحات السيارات القديمة بأنواعها، ومجموعة من الحيوانات المحنّطة مثل: الغزال والذئب والصقر والطير والضب والقنفذ والنيص كذلك مجسم كبير للهيكل العظمي للجمل وغيرها.. هذا بعض ما في المتحف القديم من الأواني والمشغولات وغيرها.
ويضم المتحف أيضا جناحا خاصا للملك عبد العزيز رحمه الله أقامته دارة الملك عبد العزيز بهدف التعريف بسيرته رحمه الله ومآثره الكبيرة يتقدمها صورة تذكارية لوالده الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي. ويعرض العديد من مقتنيات الملك الخاصة وبعض الصور القديمة النادرة والمخطوطات المكتوبة بخط اليد والتي يرسلها لرعيته، ومجموعة من الأشرطة والأفلام عن حياة الملك رحمه الله. ويضم الجناح عن حياة أئمة وملوك الدولة السعودية ماضيا وحاضرا وتاريخ المملكة العربية السعودية.
أما القسم الإعلامي والعلاقات العامة فيحتوي على مكتبة عامة فيها ما يقارب ستة آلاف كتاب في التراث والثقافة والعلوم الإسلامية والإنسانية واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والأدب وغيرها. ومكتبة الفيديو ومحل للتصوير مجهزا بلوازم التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني وأجهزة كاملة للعرض، وفيها مجموعة من البرامج الإعلامية والتراثية والعلمية وبرامج موثّقة عن منطقة القصيم وكل مدنها ومحافظاتها وقراها. ويقوم المتحف بالتنسيق مع المدارس من أجل قيام الطلاب بزيارة للمتحف.
وأما الجناح العلمي في المتحف فيضم ثلاثة معارض متميزة أولها: المعرض العام وفيه مجموعة من الصور التاريخية والتراثية القديمة عن مدينة بريدة، ونماذج لحيوانات محنّطة من البيئة الصحراوية في القصيم. وثانيها: معرض وزارة البترول والثروة المعدنية ويعرض فيه نماذج مختلفة من المعادن والصخور وبعض المصنوعات التي تدخل في اختصاص الوزارة مما يوجد في منطقة القصيم ويؤخذ من بيئتها وهي من تمويل شركة أسمنت القصيم. أما المعرض الثالث: فقد أنشأته شركة أرامكو السعودية ويحتوي على مجموعة كبيرة من الصور واللوحات التاريخية التي تحكي قصة اكتشاف النفط في المملكة، وبعض النماذج واللوحات والبيانات التي توضح للزائر دور الشركة في النهضة الحديثة بالمملكة وصناعة الغاز والزيت والتكرير والشحن وغيرها. وفي معرض أرامكو مجموعة من الصخور والزيوت والوقود، ويعرض فيه أفلام توثيقية عن الشركة وقطاعاتها وإنتاجها من النفط.
وبعد تلك الجولة الموسّعة في متحف بريدة توجّه الزوّار إلى أحد المشروعات الكبيرة في مدينة بريدة وهو (مزرعة الراجحي في الباطن بالقصيم) وهي مزرعة كبيرة وواسعة وهي جزء من مشروع أوقاف الشيخ صالح بن عبد العزيز الراجحي جزاه الله خيرا وقد أسسه لتحقيق مجموعة من الأهداف منها: رعاية أوقاف الشيخ من العقارات والمزارع والمحافظة عليها. واستثمار بعضا منها في أعمال الخير والبر بما يعود عليها بالنماء الزيادة. وصيانة الأوقاف الموجودة والمحافظة عليها من التلف. وأخيرا صرف عائد تلك الأوقاف في مصارفها المعروفة شرعا والإشراف عليها.
وقد حصل وقف القصيم (مزرعة الباطن) على شهادة الإنتاج العضوي من منظمة (ECOCERT) كذلك دخلت المزرعة موسوعة (جينيس) للأرقام القياسية العالمية. وهي تعتبر من أكبر المزارع في العالم تبلغ مساحتها(809)هكتار أي ما يعادل (2000) ألفي فدان، وفيها (200،000) مائتا ألف نخلة تنتج (45) صنفا من التمور كما يبلغ إنتاجها (10،000) عشرة آلاف طن من التمور سنويا.
تأسست إدارة وقف الشيخ صالح عام 1417هـ وقد ركز المشروع على زراعة النخيل بشكل كبير وحلّت زراعتها محل زراعة الخضروات والشعير والبطيخ والفواكه، أما بداية الزراعة فكان ذلك في عام 1413هـ بغرس (26000) فسيلة من أصناف النخيل ا لمختلفة واستمر الغرس حتى وصل الآن إلى (200000) مائتا ألف نخلة مثمرة. وتقع المزرعة في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة بريدة ويعتبر هذا المشروع من أكبر المشروعات الزراعية في العالم وهو أكبر المشروعات الزراعية للنخيل بالمملكة وتمت فيه الزراعة على احدث التوصيات العلمية والمواصفات العالمية والطرق الفنية في غرس الفسائل على أبعاد (10×10) متر بين كل نخلة وما يجاورها. كما يتم الري بالمشروع على أحدث الطرق الفنية الحديثة.
وهذا الوقف وغيره من أوقاف الشيخ صالح الراجحي مخصص للوقف الخيري في شتى أنحاء المملكة ويتم التوزيع على نطاق واسع داخل المملكة. أسأل الله أن يجزل له الأجر والمثوبة وأن يجعله في ميزان حسناته. وسوف نواصل الحديث عن الزيارة في محافظتي عنيزة والبدائع بإذن الله.
كتبه: عبد الله بن صالح العقيل ـ الرس.
aa10@maktoob.com
القصيم.. تراث عريق وحاضر مشرق (2/3)
(تراث الأجداد في بيت الحمدان في عنيزة)
(ومصنع تمور القصيم العملاق في البدائع)
أما الزيارة الثالثة للزملاء مديري المعاهد الصناعية فكانت إلى محافظة عنيزة وقد تشرفنا بمرافقة زميلين عزيزين إلى (بيت الحمدان) التراثي في عنيزة الذي بناه صاحبه/ إبراهيم بن صالح بن حمد الحمدان ويسمى (جنادرية الوادي) من أجل أن يكون معلما تراثيا حضاريا وثقافيا يضاف إلى ما في عنيزة من تطوّر وإبداع. ويقع في (منطقة الوادي) في شمال عنيزة.
وبيت الأجداد عبارة عن بيت متكامل بناه صاحبه على طراز البيوت القديمة التي كانت سائدة في عنيزة أيام بيوت الطين ابتداء من المجلس والليوان والقبّة والخَلْوة والصفّة والسرحة والمقلّط والموقد وغيرها. والجميل فيه أنه يحكي قصة الماضي بعاداته وتقاليده الجميلة والممتعة ويحكي أسلوب الحياة القديمة لأهلنا.. أما مجلس الرجال فقد عملت جدرانه من الطين وأعمدته من الخرز الدائري وشُبّعت جدرانه بالطين والتبن، وعمل سقفه من خشب الأثل والعسبان والخوص وعُلّقت على سقفه السرج وعلى جدرانه الوتد من الخشب وفرشت أرضه بالسجاد والزوالي والبسط والمراكي والمساند وزخرفت جدرانه بالجص الأبيض حسب الطراز القديم، وفيه الوجار الذي توقد فيه النار والكمر والجلا وطاق الحطب والدريشة والفرجة وغيرها. والوجار فيه المنفاخ والنجر والملقاط والسراج والبيز والمحماسة ومروحة النار اليدوية وأنواعا كثيرة من الدلال والأباريق.
وفي مكان آخر في البيت في أحدى الغرف شاهدنا القفّة والقدّة والسقاء والصميل والقربة والغَرب والدلو. وشاهدنا شنطة الحديد التي تحفظ فيها المرأة حاجاتها. وفي موقع آخر شاهدنا الحبال والأرشية والأوتاد والمساحي والكزام والفاروع والمكرّة والعتلة والشاكوش الكبيرة. وقدور النحاس الكبيرة والصينية والمقرصة.
كما شاهدنا في البيت وفي إحدى الغرف الداخلية: عملية التوليد البدائية التي تقوم بها الجدّة وهي جالسة والمرأة التي تلد واقفة بجوار الجدار وقد ربطت يديها إلى الأعلى والقابلة تقوم بالتوليد وحولها جميع الأدوات اللازمة، وشاهدنا المرأة العجوز في مصلاّها داخل الغرفة تؤدي فرضها وحولها: الكولة وشنطة الحديد السقاء وهي تجلس على الخصّاف. والعجوز الأخرى جالسة وهي تمدّ أرجلها وتستمع للراديو وحولها ملابسها، وامرأة أخرى تقف بجوار المهراس تهرس العيش والحب.
كما شاهدنا في البيت السقّاء وهو يحمل التنك المعلقة على خشبة فوق كتفيه وينقل الماء إلى البيوت. والمرأة وهي تخضّ الحليب لصنع اللبن والزبد وحولها القنّارة والسقاء وبجوارها سطل المعدن لتضع فيه الزبدة. وفي الصّفّة الداخلية شاهدنا الشريح والقفرة المعلقة في السقف كذلك المحيزرة وعلب البلاستك وفيها حلاوة ملبّسة وحلاوة برميت وحلاوة أم عود. كذلك شاهدنا الطعام مغطأ بالمطعمة من الخوص.
وكذلك يحتوي على أنواعا كثيرة من الثياب القديمة والسراويل المعلقة على جدران الصّفّة. وفي مكان آخر شاهدنا الميزان الذي يزنون فيه العيش والتمر وغيرها. وعظام كاملة لجمل مع الرأس. هذا بعض ما شاهدنا في بيت الأجداد. والبيت صورا رمزيّة معبّرة عن الدكاكين التي كانت في سوق عنيزة القديم عملها صاحب البيت ببراعة وإبداع من أجل الذكرى.
وبعد أن انهينا زيارة بيت الأجداد في عنيزة توجهنا نحو محافظة البدائع واطلعنا على مشروع زراعي وصناعي كبير هو (مصنع تمورالقصيم) والتمور كما هو معروف عنها يتم إنتاجها مرة في العام ولفترة قصيرة لا تتعدى ثلاثة شهور فقط في فصل الصيف، ولحاجة السوق لتكون التمور متوفرة في كل أشهر العام جاءت فكرة إنشاء مصانع مختصة بتصنيع وتعبئة التمور بالمملكة ومنها هذا المصنع الكبير الذي بدأت فكرة إنشائه عام 1404هـ وبعد استكمال الدراسات الفنية والتشغيلية له بدأ الإنتاج فيه عام 1407هـ ويقع المصنع في طريق رامة في الجهة الجنوبية من محافظة البدائع في منطقة تشتهر بمزارع التمور وبقربه من المواد الخام وتوفر الطرق المعبّدة التي توصل إليه.
تقدر مساحة المشروع (60000) ستون ألف مترا مربعا. وتحتوي على مساحات زرعت فيها أنواعا كبيرة من النخيل المنتج وصالات المصنع التي تنتج التمور المعبأة ومستودعات التبريد ومستودعات مواد الخام ومواد التصنيع وورشة الصيانة لمعدات المصنع وورشة لصيانة السيارات التي تخدم المشروع وملاحق سكنية للعاملين بالمصنع وصالة للألعاب المختلفة.
أما الطاقة الاستيعابية المقدّرة للمصنع فهي (5000) خمسة آلاف طن سنويا. وفي بدايته عام 1407هـ كان ينتج (2000) ألفي طن سنويا وتم رفع الطاقة الإنتاجية عام 1427هـ إلى (3500) ثلاثة آلاف وخمسمائة طن. وينتج المصنع أنواعا كثيرة من التمور هي: السكري وخلاص القصيم وخلاص الخرج وخلاص الأحساء والصقعي والخضري وأم الحمام (الكويرية) والشقراء والرزيز والبرحي والرشودية والسبّاكة والروثانة ونبتة علي ونبتة سيف والشيشي والمكتومي والمخلوط والدبس والعبيط (المطحون).
ويقوم المصنع بإنتاج التمور المصنّعة من مزارعه الموجودة على أرض المصنع و من التمور التي يقوم بشرائها من المزارع الأخرى. أما الطريقة المتبعة في المصنع فبعد وزن التمور المورّدة للمصنع يتم التصنيع بعدة مراحل:
1ـ يتم تسليم التمور التي يتم توريدها إلى لجنة فنية في المصنع، ثم يتم فرزها وتقييمها وتصنيفها إلى درجات مختلفة من الجودة. بحيث يتم استبعاد الرديء منها واستعمال الصالح.
2ـ يتم إدخال التمور إلى صالة الفرز ويتم فرزها حسب النوع والجودة وإبعاد الرديء منها.. ثم يتم تعقيم وتبخير الصالح منها من أجل المحافظة عليها بحالة سليمة بعد ذلك يتم تخزينها في مستودع المواد الخام وحفظها في درجة حرارة لا تزيد عن (5) درجة مئوية حتى يؤخذ منها حسب حاجة التصنيع.
3ـ الغسيل والتجفيف: وتمر التمور على سيور في آلات خط الإنتاج ليتم غسلها وتجفيفها، ثم فرزها آليا وتوزيعها على خطوط الإنتاج وهي:
ـ خط المفرد: ويعبأ في عبوات بلاستيك مختلفة الوزن ومغلفة ومعلبة.
ـ خط المضغوط: ويعبأ في:100/200 جرام ـ 1 كجم وأكثر جرام.
ـ خط التنك: ويتم تعبئة التمور في تنك مع وزنها.
ـ خط المطحون: ويتم كذلك تعبئة التمور المطحونة وتسمى (عبيط) في أكياس بلاستيك نظيفة.
ـ خط الدبس: ويتم تنقية الدبس من التمور (السكري والخلاص) وتعبئته في أكياس بعضها يستعمل في المصنع والبعض الآخر يصدّر للسوق.
ـ خط الثرمو: وهو الأكياس والعبوات المفرغة من الهواء على أوزان مختلفة.
كما يوجد في مصنع تمور القصيم قسم (الجودة والرقابة) على الإنتاج الذي يخرج من المصنع، وذلك بوجود خبير عند كل مرحلة من مراحل الإنتاج المتعددة، ويلزم ألاّ يتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى حتى يتم التأكد من جودة المنتج. ومما يلاحظ في المصنع على كثرة العمالة فيه حوالي (550) عامل إلاّ أن أكثر الإنتاج يتم بأيدي العمالة أي بطريقة بدائية ولا تستخدم الآلة في كل مراحل الإنتاج وإنما تُرى فقط في الغسيل والتجفيف وبعض مراحل التغليف. حتى أن صناعة التمور المطحونة والتمور التي تغطى بالسمسم وغيره وتحشى بالمكسرات يتم أكثره بالأيدي ولا يوجد آلات لذلك. وسوف نواصل الحديث في محافظة الرس بإذن الله.
كتبه: عبد الله بن صالح العقيل ـ الرس.
aa10@maktoob.com
القصيم.. تراث عريق وحاضر مشرق (3/3)
( النفق والجريف وبرج الشنانة وجدعية)
من مظاهر الحياة العسكرية والاجتماعية لأهل الرس
ثم كانت الزيارة الثالثة للزملاء مديري المعاهد الصناعية إلى محافظة الرس بلد البطولة والشجاعة حيث تصدى أهلها للمحارب إبراهيم باشا عام 1232هـ بعدما حاصرها ومنعوه من دخول بلدتهم بإيمانهم وشجاعتهم وعندما عجز عنها عقد معهم الصلح المشهور باسم (صلح الرس) وقد تشرفنا بزيارة خمسة معالم فيها تراثية وحضارية وكان كاتب تلك السطور هو المرشد عن المعالم التي تخص النواحي العسكرية.
وأول تلك المعالم (نفق إبراهيم باشا) الذي يقع في الجهة الجنوبية من البلدة القديمة بين بيوت الطين وحاليا في الجهة الجنوبية من شارع الملك فيصل بالرس خلف المدرسة الثانوية للبنات وهو الذي يحكي قصة البطولة التي أبداها أهل الرس عند حصار إبراهيم باشا لبلدتهم حيث أبدوا شجاعة وبسالة أعجزت القائد التركي عن احتلال الرس واضطر لعقد الصلح مع أهلها.
أما قصة حفر النفق فعندما وصل القائد التركي إبراهيم باشا مع جنوده وسلاحه إلى الرس في 25/8/1232هـ وحاصرها حتى يوم 12/12/1232هـ ( ثلاثة شهور وسبعة عشر يوما ) وضيّق عليهم الخناق فثبتوا وتصدوا له بقيادة الشيخ الفارس البطل قرناس بن عبد الرحمن. ثم أرسل إليهم الإمام عبدالله بن سعود من عنيزة مرابطة (دعم) فحاصرهم الترك أشد الحصار وتابعوا الحرب عليهم في الليل والنهار ثم حفروا تحت الأرض خندقا من الجهة الجنوبية الشرقية من البلدة القديمة على بُعد (600) متر بدأوه من جوار(حصاة بعيران) وعندما وصل الحفر إلى شعيب الحرمل أخذ التراب ينهلّ عليهم وعجزوا عن الاستمرار بالحفر ثم انتقلوا إلى الجهة الغربية من البلدة من مكان يسمى (الحنبوصي) بجوار بيت مبارك الطيّاح حاليا وكانوا يحفرون النفق ويحشونه بالبارود، وفي إحدى الليالي ـ وكما يّروى ـ سمعت امرأة تسكن في بيت الضلعان وكانت تخيط أو تطحن صوت الجنود وهم يحفرون أسفل المنزل فبلّغت الشيخ قرناس بذلك فقام بفتح فتحة صغيرة على النفق وأحضر قطّا وربط في ذيله قبسا من النار وأطلقه في الفتحة إلى داخل النفق فثار البارود فيمن داخل النفق وقتل مجموعة كبيرة من الجنود وأكل ما بداخله ويُروى بأن عدد القتلى من الأتراك في النفق (500) فرد. فطار غضب الباشا من هذا الفعل، ويُروى بأنه حفر حفرة بجوار مكان الحصار ودفن فيها من مات في النفق.
يقول الشاعر ـ أو الشاعرة ـ يصف نفق الباشا في الرس:
نشدتنا عن طول دبل المغازين وعرضه ومبدأ مدخله بالتمام
تسعين بوع الطول ومن حدر بوعين ويمشّي الرجال الثلاثة قيام
ومبداه بالحمبوصي اللي على يمين مسنّد للجو شرق الهدام
أما المعلم الثاني فهو (الجريف) ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من الرس على شارع يسمى باسمه وهو تصغير (جُرْف) وهو ربوة مرتفعة من الأرض تقع على إحداثية (836 51 25)(849 30 043) كان أهل الرس يستخرجون منه ملح البارود أثناء حروبهم مع من حولهم. وطريقة أهل الرس في استخلاص الملح من الجريف: أنهم يحفرون حفرة بعمق متر تقريبا ويسقونها بالماء لعدة أيام حتى يّرى ملح البارود مرتفعا فوق الطين لأنه خفيف الوزن ثم يأخذونه ويوضع في أوعية كبيرة ويضاف له الفحم وقد يضاف له بعض المواد الأخرى فيقال له(مْحَيّل) حتى يتحول لونه إلى السواد ويقوى، ثم يضعونه في البنادق للرمي.
ذكر شعراء الرس وغيرهم الجريف في الأشعار الحماسية للحرب. يقول إبراهيم بن دخيل الخربوش شاعر الحرب بالرس مفتخرا بشجاعة قومه وذاكرا الجريف:
والله ما جينا من الرس عانينا إلا ندور الحرب يا للي تدورونه
من يوم سرنا والمنايا تبارينا واللي ورد حوض المنايا تعرفونه
معنا سلاح ننقله في يمانينا ملح الجريف محيّل له يزلونه
كما قال الشاعر الخربوش أيضا يصف قصره في الرس:
بنيت لي قصر حصين معتلي به كل ما يذكر وحيش ينزلي
ثم قال:
الأنس حامينه عنهم لا يجونه والذيب دون الجن ببابه يهذلي
حطيت به ملح الجريف ولا بتي حماقة إلى جاء الملاقا تجهلي
وقال الشاعر سليمان الفتّال:
من زبنّا رقى روس الرجوم ما تجيه البيارق والخيام
نجني الملح من روس الحزوم معتبينه لحزّات الزحام
وقال الشاعرة رقية الصالحي من الرس:
جاء مهنا يقود الحرب بخزامه باغي الرس والفزعات يتلونه
يوم ثار الدخن والموت بسهامه ثار ملح الجريف وشاف بعيونه
ويبدو بأن كل أهل القصيم ـ وقد يكون غيرهم ـ يستفيدون من ملح الجريف ويستخدمونه في حروبهم. يقول الشاعر علي الخياط من عنيزة:
لي بندق ترمي اللحم لو هو بعيد ما وقّفت بالسوق مع دلاّلها
خمسٍ رصاصه ستة أشبار تزيد ملح الجريف محيّل يعبا لها
والمعلم الثالث في الرس (برج الشنانة) وهو الصرح الأثري الذي يقع على إحداثية (032 50 25)(396 26 043) والذي بقي شامخا بكل عزة وأَنَفه رغم تعاقب السنون عليه ورغم ما يلقاه من أيدي العابثين، فقد بقي رمزا من رموز البطولة والفداء يحكي قصة البطولة التي أبداها أهل الرس وقوة بأسهم في التصدي للعدوان وكان شاهدا على شجاعتهم وتضحيتهم بنفوسهم الغالية في الدفاع عن بلدتهم يحدوهم الأمل في العيش الرغيد والحياة الهانئة، فناصروا صقر الجزيرة الملك عبد العزيز رحمه الله في (معركة الشنانة) وانتصروا لدينهم وهزموا المعتدي عبد العزيز بن رشيد الذي حارب قيام دولة الحق والإيمان والعدل.
هذا البرج الشاهق الذي بناه رجل من البكيرية يدعى (فريح التميمي) في حدود عام 1211هـ بمساعدة رجال من أسرة الخليفة التي تسكن بلدة الشنانة ليكون متراسا لهم وقت الحرب، وفي البرج سلالم توصل إلى أعلاه، وقد تعرض البرج لقصف مدفعي أثناء الحرب التي وقعت حوله، كما إن عوامل التعرية وبعض الأيدي الطائشة لها دور ثانٍ في تخريبه فتهدم أكثره وبقي منه الآن حوالي (20) مترا، وقد قامت إدارة الآثار بوزارة المعارف عام 1399هـ بترميم البرج، ثم قاموا بترميمه مرة أخرى في الأعوام الأخيرة، وحاليا تقوم هيئة السياحة والآثار ببناء مبنى واسع بجوار البرج من الجهة الشمالية ليكون ضيافة لمن يزور البرج.
والمعلم الرابع في الرس هو(مسجد الخليفة) ويقع في المنطقة الصناعية على احداثية (343 50 25)(852 27 43) أنشأه صاحبه المواطن المبدع/ محمد بن عبدالله الخليفة الذي تخرّج من مركز التدريب المهني في محافظة الرس/قسم السيارات وكان لديه أفكار تدل على الإبداع والابتكار وعمل في الأمن العام، وبعد فترة من عمله ظهرت لديه بعض الأفكار الإبداعية فترك العمل ليتفرغ لورشة السيارات الخاصة به.
قام المذكور ببناء المسجد بما لديه من أفكار إبداعية بدون أعمدة ولا جدران ولا سقف بل جعله على شكل نصف دائرة بشكل بديع ومظهر حضاري جميل وليكون قطعة واحدة متصلة ببعضها، وله منارة من حديد مخروطية الشكل صبغت باللون الأسود. حيث بدأ المبتكر بناء المسجد بوضع كومة من الرمل على مساحة (15×8 متر) وأقصى ارتفاع لها في الوسط (2،50 متر) ثم قام برش الرمل بالماء من أجل أن يتماسك ويقوى، بعد ذلك أخذ يصفّ الحجارة السوداء القوية فوق الرمل بشكل مرتّب ومحكم ابتداء من الأرض من كل الجوانب حتى أعلى الرمل مع أخذ الاعتبار للمحراب والنوافذ والباب وقام بوضع أسلاك الحديد على الحجارة المصفوفة حسب الطريقة الهندسية المعروفة ثم صبّ الخرسانة الجاهزة على المبنى بحيث يجعل الحجارة تتماسك بقوة بفعل الخرسانة ثم أخذ يرويها بالماء وبعد عدة أيام حسب النظام المعماري قام بسحب الرمل من داخل المبنى ثم أخذ بعمل التحسينات اللازمة للمبنى وعمل الباب والمحراب، كذلك قام بعمل نوافذ في سقف المبنى مغطاة بالزجاج تسمح بالإضاءة التامة نهارا للمسجد وهي تتبع الشمس في الشروق والغروب وتمنع دخول الهواء الملوّث.
وحتى يكتمل الإبداع في العمل قام بصنع منارة من الحديد بشكل مخروطي إلى أعلى وعمل لها طلاء باللون الأسود العاكس للشمس ويتم بواسطتها بطريقة فنية وإبداعية سحب الهواء من داخل المسجد عبر قنوات داخل الخرسانة المسلحة وتبخيره بفعل الحرارة التي في داخل المنارة وبالمقابل يتم دخول الهواء النقي إلى المسجد حتى تبقى درجة الحرارة داخل المسجد (32) درجة مئوية في الشتاء والصيف على حد سواء. و يعمل صاحب المسجد حاليا على استمرار التحسين والبحث عن وسائل إبداعية جديدة لذلك. كما يفكّر حاليا بزراعة محيط المسجد من الخارج من أسفل وأعلى بالثيّل الأخضر حتى يكتسب المسجد البرودة التي يحتاجها المصلون بفعل الزراعة والماء.
بقي أن نعرّفكم أن المبدع محمد بن عبد الله الخليفة بدأ العمل بالمشروع في بدابة عام 1426هـ وتمت الصلاة فيه في بداية شهر رمضان المبارك 1426هـ. أما محيط المسجد حاليا من الداخل فيبلغ حوالي (96) مترا مربعا ويتسع لحوالي (100) مصلٍ.
ولم يكتف المبدع إلى هذا الحد بل عمل بجوار المسجد غرفة للتدفئة بالشتاء على نفس الشكل وقام بعمل طريقة يتم فيها توزيع حرارة التدفئة على الجالسين بشكل دائري حول مكان النار الذي يقع وسط الغرفة وبواسطة قنوات ممدودة داخل أرض الغرفة. أما الدخان الخانق فيتم إخراجه بطريقة علمية إلى خارج الغرفة من أجل المحافظة على جو الغرفة من التلوّث وعلى الجالسين من الاختناق. وخلاف ذلك لا أنس مجموعة الابتكارات الكثيرة التي توصّل إليها المذكور في ورشة السيارات الموجودة في الموقع في مجال الصيانة وإصلاح الأعطال.
وأخيرا أدعوك أخي لزيارة المسجد والغرفة والورشة التي تتوفر فيها مجموعة من الابتكارات الفنية في مجال صيانة السيارات مع دعواتي بالتوفيق.
أما الزيارة الخامسة في محافظة الرس فكانت إلى (قلعة جِدْعِيّة) كما يحلو لصاحبها الأستاذ/ خالد بن محمد الجدعي الذي يعمل معلما في إدارة التربية والتعليم في الرس وهو مدرب معتمد لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني. أن يسميها بذلك وهو الاسم المعروف لعمته الشاعرة المشهورة باسم (جدعية) تخليدا لذكرها ومكانتها، وقد عملها على شكل قلعة مرتفعة. وهي عبارة عن استراحة خاصة تحتوي على مجموعة من الغرف وسماها بالأسماء القديمة عند الأجداد مثل (القهوة، المقلّط، الموقد، السرحة، الحوش، الصفّة..الخ).
بدأ العمل بإنشاء القلعة في بداية عام 1427هـ وهو يعتبر المرحلة الأولى منها والعمل حاليا مستمر بها في المرحلة الثانية التي ينتهي العمل منها في منتصف هذا العام بإذن الله. أما الهدف من إنشاء القلعة كما يروي صاحبها.. فهو عندما لاحظ كثرة الزوّار لمحافظة الرس وعدم توفر أماكن متميزة فيها يقوم الزوار بزيارتها والاستراحة بها والتمتّع بمشاهدة حياة آبائنا وأجدادنا وما كانوا عليه من البساطة والحياة الرغيدة قام بإنشاء تلك القلعة لتكون استراحة ومزارا لمن يفد إلى المحافظة لمن يبحث عن المتعة والفائدة والعبرة. وصاحب القلعة يكرر في كل مناسبة الترحيب بالضيوف والذين يرغبون زيارة القلعة من مواطنين ووافدين وطلاب وغيرهم.
أما محتويات القلعة: فإنها تضم مجالس متعددة مبنية من الطين أشهرها (قهوة الرجال) التي يرتفع سقفها تسعة أمتار إلى الأعلى وهي مبنية من الطين وسقفها من خشب الأثل وعسبان النخل والسعف وتم فرشها بالسجاد القديم الأصلي وزُيّنت جدرانها ببعض القطع الأثرية النادرة مع وجود النوافذ القديمة وأحيطت جدرانها أيضا بالمصابيح التي تسمى (السّرْج) وهي آلة الإضاءة قديما موزعة بشكل متناسق. كما تضم القلعة متحفا من أكبر المتاحف الخاصة في منطقة القصيم يحوي أكثر من ثلاثة آلاف قطعة أثرية قديمة ونادرة.
وقريبا سوف يتم افتتاح المرحلة الثانية من القلعة ويحتوي على أشياء جديدة وبارعة. والقلعة تعتبر حاليا مقصد الزائرين لمحافظة الرس من المسئولين والباحثين وكبار الأعيان لما فيها من موروث قديم وتراث نادر، كذلك ما تحتويه من إبداع وبراعة معمارية أنتجتها أفكار صاحبها. ولعله يتم قريبا افتتاحها على شرف صاحب السمو الملكي أمير منطقة القصيم إنشاء الله.
كتبه: عبد الله بن صالح العقيل ـ الرس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق