(في رواية القرصان مغالطات تاريخية)
صدر كتاب (القرصان) رواية تاريخية. للكاتب عبدالعزيز آل محمود. توزيع مؤسسة قطر للنشر. وطبع شركة صحارى للطباعة في مصر. صدرت الطبعة الأولى عام 2011م. وبين أيدينا الطبعة الرابعة.
ـ وهي رواية تاريخية تتحدث عن بعض الأحداث التاريخية في الخليج والجزيرة العربية بأسلوب قصصي حواري, ويورد أسماء بعض الأفراد الحقيقيين وأسماء أفراد غير معروفين ولم يرد ذكرهم في الكتب التاريخية التي تحدثت عن حصار إبراهيم باشا لبلدة الرس. كما لم يرد ذكرهم في وثائق إبراهيم باشا لوالده. تحدث المؤلف عن حرب إبراهيم باشا لأهل الرس وحصاره لبلدتهم بشكل قصصي حواري.
ولكن هذا السرد القصصي يحمل بين طياته الكثير من المغالطات التي لم ترد في كتب الرحّالة والمؤرخين الذين قاموا برصد أحداث حرب إبراهيم باشا وأهل الرس. كما لم أجدها في خطابات إبراهيم باشا التي يرسلها لوالده ويشرح فيها حال الحرب.
وسوف نقوم بالرد على ما جاء في الرواية من معلومات.
ـ يقول المؤلف في الفصل السادس والثلاثين (ص 294) تحت عنوان (الرس, نجد, جيش إبراهيم باشا) حيث يروي عن الحرب بين إبراهيم باشا وأهل بلدة الرس عام 1232هـ ويقول فيها:
(قال رشوان آغا نائب إبراهيم باشا موجها كلامه لسادلر:
ـ استريحوا في خيمتي لحين التحرك إلى الرس, لقد أصدر الباشا أنمره منذ دقائق, ونحن فقط بانتظار أن يخرج ٍمن خيمته لنتحرك معه.
ضُرب البوق فجأة فتكهرب الجو , وسمعت أصوات جلبة قوية, خرج رشوان آغا وسادلر إلى الخارج, فإذا بجميع الجيش يتحرك خارج المعسكر, الخيّالة المغاربة والأتراك والأرناؤوط والمشاة والمدافع التي تسحبها الجمال.والبغال المحملة بالأسلحة والذخيرة والتموين, والجمال التي تحمل المقاتلين العرب وغيرها.
ثار الغبار بشكل كثيف مما دعا رشوان آغا والبقية لوضع قطع القماش على أفواههم, وشاهدوا هذا الجيش الكثيف يتحرك ببطء خارجا من المعسكر.
هل لي أن أسأل كم عدد الجيش يا آغا؟
لم يلتفت الآغا لسادلر, ولكنه أجاب بصوت عال أقرب ما يكون إلى الصراخ حتى يسمعه.
لدينا نحو 3000 فارس من الأرناؤوط والأتراك والبربر, ولدينا مثلهم من المشاة أيضا , ولدينا أيضا 500 هجّان عربي).
أقول: إن إبراهيم باشا أحضر معه في حربه لبلدة الرس ـ كما يروي رشوان آغا نائب إبراهيم باشا في الحرب ـ ستة آلاف وخمسمائة جندي مدججين بالسلاح ومعهم الكثير من المدافع الكبيرة والأسلحة الثقيلة والقنابل (القنابر) بينما قال في موقع آخر أن عدد أهل بلدة الرس (500) فقط يقاتلون بالبنادق فقط. وأرى بأن هذا هو التحدي الكبير في الحرب. كما أن دخول إبراهيم باشا هذا الرجل العنيف مع أهل الرس في حرب لا يعرف كيف تنتهي ولا يدرك نتائجها, وفي النهاية يبدي عجزه عن احتلال الرس ويوقّع الصلح مع أهلها بالشروط التي يرغبونها. وقد ورد ذلك في خطابات إبراهيم باشا لوالده.
وقال (ثم أشار الآغا إلى بعض ضباطه لتوفير دوابّ للضيوف حتى يرافقوا الجيش إلى الرس.
ركب الجميع على خيولهم التي وفرها لهم الآغا, وتبعوا الجيش محاولين تفادي زوبعة الغبار التي يثيرها خلفه.
وصل الجيش العرمرم إلى قرية الرس, التي تحصّن فيها نحو خمسمائة مسلّح وهّابي, وأمر إبراهيم باشا جنوده بعدم نصب الخيام أو الترجّل عن صهوات الخيل إلا بعد أن يتم احتلال القرية وقتل جميع من فيها).
وأقول: يروي سادلير في مذكراته بأن إبراهيم باشا أقسم ألاّ يُنزل أمتعته ومدافعه إلاّ بعد أن يقتحم بلدة الرس ويدمّر أهلها. ووعد بأن يكون ذلك سريعا, ولكنه لم يحقق شيئا من وعده. قال سادلير في مذكراته (رحلة عبر الجزيرة العربية ص 146) (وغذ سعادته السير مع قواته حتى وصل تلك البلدة التي قال: إنه مصمم على أن يستولي عليها قبل أن يعطي إذنه بإقامة معسكره وقبل أن يترجل فرسانه عن خيولهم, لذلك أمر طوبشي باشا أن يدفع سلاح المدفعية إلى الأمام حتى يصل إلى بُعد ثماني خطوات عن الأسوار وأن يباشر الرشق المدفعي باتجاه أقوى المعاقل. ونظرا لكون جنوده مكشوفين ولتعرض رجال المدفعية إلى رشق كثيف من نيران الأسلحة الخفيفة فقد تجاوز القتل في الأتراك عشرة أضعاف ما قتل من المحاصَرين الذين دافعوا عن المدينة بمعنويات عالية).
وأقول: ولكن إبراهيم باشا لم يستطع احتلال البلدة بل عجز عن اقتحام سورها المنيع على ما معه من قوة قاهرة, فكان إيمان أهل الرس وبسالتهم وتفانيهم في الدفاع عن بلدتهم أكبر من قوة الباشا وتطلعاته. مما جعله يتحسّر ويتأسّف ويعتذر لوالده عن غلطته في الدخول مع أهل البلدة في حرب يعلم بأن نهايتها في صالحهم.
وقال (أُحضرت المدافع إلى الأمام, ووجهت إلى جدران القرية وأمر قائد المدفعية كتيبته بالضرب, فانفجرت القذائف على جدران المدينة وتناثرت شظاياها, وتصاعد الدخان وسُمع الصياح من الداخل, استمر القصف عدة ساعات, لم تتأثر جدران القرية كثيرا به, لأن المقاومين رمموا الجدار وزادوا في سماكته, وصبُّوا عليه الماء حتى يمتص تأثير القذائف).
أقول: هذه هي القوة في الحرب التي لم يدركها إبراهيم باشا وضباطه وجنوده, وتؤكد كتب الرحّالة والمؤرخين النجديين بأن قنابل ومدافع إبراهيم باشا تحطمت وتناثرت شظاياها أمام سور الرس القوي وعجز عن هدمه وأبدى لوالده التذمّر والتباكي بأنه عجز عن احتلال سور البلدة. وأن جنود الباشا هاجموا سور الرس من أجل اقتحامه ثلاث مرات منظّمة ومرتبّة بقيادة الضباط. ولكنها تبوء بالفشل ويموت تحت سور الرس أكثر من ستمائة جندي. وتناثري جثثهم في الخندق الذي حفره أهل الرس أسفل السور. أما قول المؤلف (وسُمع الصياح من الداخل) فهذا غير صحيح, بل يقتضيه تسلسل أحداث وسيناريو القصة فقط.
ثم قال (أمر إبراهيم باشا جنود المشاة بالتقدم, ظنّا منهم أن المقاومين قد لانوا بسبب القصف, تقدم المشاة على شكل صفوف متراصة بعض الوقت ثم زادوا في سرعتهم بشكل تدريجي وهم يصرخون.
فجأة انطلق وابل الرصاص من المدافعين تجاه الجنود الذين تساقطوا بكثرة, فكانت كل رصاصة تنطلق من المدافعين تجد لها هدفا من الجنود, وكان من الواضح أن المدافعين كانوا مدربين على الرمي ولم يكونوا يسرفون في إطلاق النار).
أقول: يتواصل مؤلف القصة في تسلسل أحداثها, ويروي بأن أهل بلدة الرس من القناصة البارعين, فكانت كل رصاصة يطلقها أهل الرس من البنادق تقتل جنديا من جنود الباشا. وهذا يخالف ما قاله من أن صياح أهل البلدة يعلو من داخلها, فلو كان صياحهم يعلو كما يقول لما استطاعوا أن يقنصوا الجنود بالبنادق. وقوله هنا لعله يعني الهجوم الذي شنّه جنود الباشا على سور البلدة بشكل جماعي وكان مصيره الفشل أمام بنادق أهل الرس.
وقال (صدرت الأوامر لإرسال الخط الثاني والثالث من المشاة فتساقطوا أيضا أمام الجدار, وامتلأت ساحة المعركة بالقتلى والجرحى من الجيش, ومع مغيب الشمس انطلق صوت الأذان من داخل مدينة الرس الذي تزامن مع الأذان في معسكر جيش إبراهيم باشا).
أقول: وهنا يتحدث المؤلف عن أحد الهجمات التي قام بها جنود إبراهيم باشا من أجل اقتحام سور بلدة الرس ولكن أبطال الرس تصدّوا لهم بالبنادق وصادوهم كما تصاد الطيور فتساقط الجنود المساكين في الخندق بين قتيل وجريح, وأبطلوا الهجوم. ويروي المؤرخون بأن عدد القتلى في هذا الهجوم بلغ ستمائة جندي.
قال (كان سادلر يقف على حصاة بالقرب من رشوان آغا ويقف على مقربة منه بشر الذي كان مصدوما من كثرة القتلى, فلم ير من قبل قتلى بهذا العدد, ولم يأخذه من تفكيره سوى صوت الأذان الذي كان يتردد بين المعسكرين, فكان أن سأل نفسه هل هؤلاء وهؤلاء على حق فيما يفعلون؟ فهم يعبدون نفس الرب ويُصلّون لنفس القبلة ومع ذلك يسفك بعضهم دماء بعض).
وأقول: يستمر المؤلف في سرد أحداث قصته التي يورد أحداثها الواقعية بشكل خيالي, ويورد أسماء لا أدري من أتى بها مثل (بشر ومتعب) الذي ذكرهم في أحداث القصة ولم يرد ذكرهم في كتب المؤرخين النجديين, كما لم يذكرهم سادلير في مذكراته. ولكن هل هي موجودة فعلا في ساحات المعركة أو أنه أورد الأسماء لما تقتضيه أحداث القصة فقط من أجل أن تكتمل أحداثها. وقد ذكر في موقع آخر أن بشر هذا من آل عفيصان.
وقال (استغرق بشر في تفكيره, وكأنه يسأل نفسه عن معنى التديّن والعبادة, وتأثير ذلك في الإنسان, وعن القتل وسفك الدماء, فإذا كان الإنسان يعلم أنه سيقابل ربه يوما ما ليسأله عن أفعاله التي قام بها في حياته, فلماذا إذن يقتل أو يقاتل؟ أليست الحياة قصيرة؟ أليست عبارة عن فترة امتحان قبل المكافأة؟ إذا كنا في هذه الدنيا فترة قصيرة, فما الداعي لأن نتقاتل إذن؟.
انشغل بشر بكل هذه الأسئلة التي لم يحد لها جوابا.
فسمع سادلر يسأل الآغا.
ما معنى أرناؤوط يا آغا؟
لست أعلم بالضبط, ولكني سألت بعض الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني منذ فترة, فقالوا لي إن معناها هو: عار أن نعود, وهذا كان شعارهم في المعارك, إذ أن من العار أن نعود مهزومين, فكتبوا هذا الشعار على لواء الفرقة وعرفت به, ثم حُرّف بعد ذلك إلى كلمة واحدة هي أرناؤوط.
نام المعسكران وهدأت الأصوات عدا أصوات الجرحى الذين ظلوا يئنُّون طوال الليل من الألم, ومع ظهور أول خيط للفجر انطلقت صيحات الأذان في المعسكرين, وشرع الناس في الصلاة وهم يسألون نفس الرب أن ينصرهم على أعدائهم.
استعد الجانبان للقتال, حينها أمر إبراهيم باشا الفرسان بالاستعداد للقتال فهجمت طلائعهم على الجدار, فتساقطوا بفعل قنص المقاومين, وما إن وصل الفرسان المهاجمون على بُعد أمتار من الجدار حتى انهارت بهم الأرض, واختفت الخيول بفرسانها تحت الأرض).
أقول: إن أهل الرس عندما بنوا السور الرفيع والقوي حفروا أسفله من الخارج خندقا وقاموا بتغطيته بسعف النخل وفوق السعف وضعوا طبقة من الرمل حتى يخفي معالمه. ويكون سهلا لسقوط من يقف عليه. وهذا ما حصل عندما هجم جنود إبراهيم باشا على سور البلدة وحاولوا التسلق سقطوا في الخندق وماتوا فيه. وأما الذين أغاروا وهم على الخيول فقد سقطوا فيه مع خيولهم. كما يروي الكاتب ذلك في الفقرة التالية.
وقال (كان المقاومون قد حفروا خندقا على بّعد أمتار من الجدار ثم وضعوا عليه خوص النخل وأغصان الأشجار, ووضعوا بعد ذلك فوقه الرمل, وموّهوه حتى لا يُرى.
تسبب كل هذا القتل ووجود الخندق في انهيار الروح المعنوية لجيش إبراهيم باشا, وخصوصا أنهم يعرفون أن المقاومين لم يتعدوا أل 500 شخص, مسلحين ببنادق قديمة فقط).
وأقول: إن المعنويات لدى إبراهيم باشا وجنوده قد انهارت بسب الإخفاقات التي مُني بها الجيش التركي المحاصِر لبلدة الرس. وبسبب التحدي العملي والشفهي الذين أبداهما أهل الرس وأفراد الحامية السعودية الذين يعرف إبراهيم باشا وجنوده بأن عددهم لا يتعدى 500 رجل, فقد أعجزوا الباشا وجنوده عن احتلال بلدتهم, حيث أن إبراهيم باشا أنذر قائد الحامية العسكرية فيها محمد بن مزروع بوجوب تسليم البلدة له, ولكن رد محمد بن مزروع كان عبارة (تعال وخذها) وهذا هو التحدي الذي يغيض الأنفس, وهو الذي جعل المعنويات المرتفعة التي يحملها كبرا وغطرسة الباشا وجنوده في أول وصولهم للبلدة تنهار في أول أيام الحصار.
ثم قال (لم يتحمل إبراهيم باشا هذه الهزيمة, فأعلن في الجيش أن هناك مكافأة قدرها خمسة جنيهات ألمانية نظير كل زوج من الآذان, التي سيحضرها أي عسكري, وأن هناك مكافأة كبيرة لمن سيقتحم الجدار).
وأقول: هذا صحيح فقد كان جنود الباشا يتسابقون لقطع آذن القتلى ليقدموها للباشا ويحصلوا على المكافآت المالية التي أّعدت لمن يقدّم ذلك. وحيث أن القتلى من جيش إبراهيم باشا كثيرون ويكفي من ذلك عدد 600 جندي الذين قتلوا جميعا في الهجوم الثاني الذي ذكره إبراهيم باشا في إحدى خطاباته لوالده ومن المؤكد بأنهم كانوا يعتدون على تلك الجثث ويقطعون آذانها ويقدمونها لقائدهم على أنها من قتلى أهل الرس.
قال (إن خمسة جنيهات ألمانية تعتبر ثروة بالنسبة إلى كل عسكري, فهجم الجيش برمّته على الفجوات التي أحدثتها قذائف المدفعية, وبدأت معركة التحام بالسلاح الأبيض, قُتل خلالها كل المدافعين عن مدينة الرس, وامتلأت ساحتها الرئيسة بالجثث, وعندما توقف إطلاق النار طلب رشوان آغا من ضيوفه مرافقته إلى داخل المدينة).
أقول: هذا غير صحيح فلم, يتمكن جنود الباشا من دخول البلدة من ثغرات في السور. ولكنهم عند هجومهم الأول والثاني تمكنوا من فتح إحدى بوابات السور ودخلوا منها فقاومهم أهل الرس بالبنادق وأبادوهم جميعا وعددهم خمسمائة جندي, وهذا ما صرّح به إبراهيم باشا في أحد خطاباته. قال (أسرعت بإرسال الأغوات الذين كانوا حولي فاستطاع فريق آخر أن يدخل ولكن اثنان من الخارجين وكثرة الملاعين قد جابه الداخلين برصاص كثيف فاضطر الجند للنكوص, وفي هذه المرة سقط منهم 500 شهيد وجريح. العمر الطويل للسلطان ولكم) أما قول الكاتب (وبدأت معركة التحام بالسلاح الأبيض, قُتل خلالها كل المدافعين عن مدينة الرس, وامتلأت ساحتها الرئيسة بالجثث) هذا غير صحيح فانه لم يُقتل من أهل الرس من بداية الحصار حتى الاتفاق على الصلح إلا (52) رجلا و(11) امرأة فقط دفنوا في (مقبرة الشهداء) الموجودة حاليا داخل سور المعركة. كما أنه لم يدخل البلدة أحد من الجنود لا رشوان باشا ولا غيره. وهذا هو أهم الشروط التي تضمنها عقد الصلح بين الباشا وأهل الرس وصاغه القائد المجاهد قرناس بن عبدالرحمن رحمه الله.
كما قال (تقدمت المجموعة من خلال البوابة الرئيسة التي كانت محطمة, محاولين تفادي الجثث التي ملأت الساحة خارج البوابة, وحال دخولهم شاهدوا جثث المدافعين ممزقة بالحراب, ومقطوعة الآذان وبعضها قد مُثّل به).
وأقول: وكذلك فإن ما أورده الكاتب غير صحيح. فلم تمتلئ ساحة المعركة بجثث أهل الرس وإنما كانت جثث جنود الباشا هي التي ملأت الساحة, حيث قتل أهل الرس كل الذين اقتحموا بوابة السور وعددهم 500 جندي, وهم الجنود الذين الذي هجموا على السور في الهجوم الثاني, وأمر إبراهيم باشا جنوده في الخارج بقتلهم وهم كل من يفر من القتال. فبقي الجنود المساكين بين فكّي كمّاشة أهل الرس يقتنصونهم بالبنادق والجنود الذين في الخارج سلطهم إبراهيم باشا على من يهرب بعد الهجوم.
وقال (لم يستطيعوا أن يسيروا بخيولهم في خط عرضي حتى يتحدثوا بعضهم مع بعض, فقد أجبرتهم كثرة الجثث على أن يسيروا بعضهم خلف بعض, حتى لا يدوسوا عليها بحوافر خيولهم.
تلثم بشر بعمامته, فهي تخفي عادة بكاءه وحزنه على ما يحصل, أما سادلر فقد بصق على الأرض من القرف, ومتعب ذلك البدوي المرح نسي مرحه وأصبح يفكر في كل هذا الدمار الذي حل بالمدينة).
أقول: ذكر صاحب الرواية عدة شخصيات غير معروفة ولم أجدها في كتب الرحّالة والمؤرخين الذين كتبوا عن حرب إبراهيم باشا وأهل الرس, مثل (بشر ومتعب) هذين الاسمين الذين ذكرهما فقط لإكمال شخصيات القصة. ولم يذكرهما أحد من الكتّاب الآخرين الذين وثّقوا أحداث الحرب. كذلك ذكر سادلير وأنه حضر وشاهد الحرب من بدايتها وأحضره مع شخصيات القصة. مع العلم بأن سادلير لم يصل الرس إلا بعد أن أنجز إبراهيم باشا مهمته في الدرعية ووصل إلى المدينة المنورة. وهذا هو الثابت.
والدليل عليه من المراجع ما قاله ريتشارد بايلي وايندر في كتابه (المملكة العربية السعودية في القرن التاسع عشر الميلادي) أثبت أن سادلير وصل الرس بعد رحيل إبراهيم باشا من الدرعية. قال (ص 94) متحدثا عن رحلة سادلير من أجل لقاء إبراهيم باشا في الرس (عرف الجميع في منفوحة أن إبراهيم باشا غادر الدرعية من قبل, وبذلك لم يجد الكابتن سادلير بديلا عن أن يستمر متجها نحو الغرب لكي يحاول مقابلته.
كان خط السير الجديد يمر بالعيينة التي ولد فيها الشيخ محمد بن عبدالوهاب وخشم الحيسية, حيث لا تزال توجد فيها آثار مدافع إبراهيم باشا. وثرمدا والمذنب وعنيزة التي أصبحت خربة كأن لم تكن بالأمس. والرس التي وصلها في 17 أغسطس, وكان سادلير يعتقد أنه قد يجد إبراهيم باشا في المدينة الأخيرة, ولكنه لسوء حظه اكتشف أن القائد المصري غادر المكان في طريقه إلى المدينة قبل ذلك بيومين. عرف سادلير عندئذ أن بعثته قد أصبحت عديمة الجدوى وقرر العودة إلى البصرة, لذلك فإنه طلب من القائد المصري في الرس أن يزوده بحرس يرافقه إلى هناك, ولكن القائد رفض ذلك لما تنطوي عليه الرحلة من مخاطر. ولم يكن أيضا باستطاعة ذلك الضابط الإنجليزي العودة منفردا إلى القطيف).
قال (عندما شاهد بعض الجنود رشوان آغا قادما جرّوا جثة لأحد المقاومين من قدميه, ووضعوها أمام جواده الذي توقف فجأة, وتوقفت المجموعة بناء على حركة لا شعورية من يده.
تقدم أحد الجنود من رشوان آغا وأدى التحية له ثم وقال:
ـ سيدي إن هذا هو قائد المقاومين في المدينة.
نظر رشوان آغا إلى الجثة التي كان بها عدة طلقات في البطن وبعضها في الرأس, فعلم أن الرجل قُتل بإطلاق الرصاص في رأسه بعد أن جُرح, هل تعرفون هويته؟.
أعاد الجندي النظر إلى الجثة ثواني, ثم نظر إلى الآغا:
ـ لا ياسيدي, لم يعرفه أحد, ولكننا قد نؤخر قتل بعض الأسرى حتى نأخذ أقوالهم, على العموم أن هؤلاء (وأشار إلى جنديين واقفين خلفه) يريدون أن يقطعوا أذنيه حتى يأخذوا المكافأة ثم يجزّوا رقبته حتى يقدموها هدية لإبراهيم باشا.
رد الآغا باشمئزاز.
ـ افعلوا ما بدا لكم.
وقبل أن تتحرك المجموعة مبتعدة عن المنظر القادم, رفع أحد الجنود رأس الجثة تمهيدا لفصلها عن الجسد, وإذا بشر يصرخ فجأة:
ـ توقف عليك اللعنة, دعني أنظر إليه.
ثم نزل عن جواده وركض تجاه الجثة, ومسح الدم عن وجهها حتى وضحت المعالم, لقد كان ابن عفيصان.
نظر بشر إلى سادلر بعينين باكيتين ووجه بائس:
إنه ابن عفيصان ياسادلر, لقد قتلوا الرجل الشجاع عليهم لعائن الله, كم كرهت الحرب عندما شاهدتها! إنها العذاب الذي يسبق الموت.
وقف سادلر ومتعب أمام الجثة بحزن, فلم يكن متعب يعرف ابن عفيصان, ولكنه تأثر بتأثر بشر الذي لم يكن يتوقف عن البكاء والصراخ, وكأنه يُخرج كل الغضب المكبوت الذي شعر به منذ أن وطئت قدمه أرض المعركة وشاهد كل الدمار الذي خلفته.
كان أحد الجنود الأرناؤوط واقفا على رأس الجثة يشحذ سكينة بانتظار أن يتركوا الجثة حتى يجز الرأس ويقطع أذنيها, إلاّ أن رشوان آغا أمره بالذهاب, فغادر المكان مترددا.
طلب بشر من متعب مساعدته لوضع الجثة على الحصان تمهيدا لدفنها بعيدا عن أعين الجنود الذين لن يترددوا في نبش القبر وقطع أذنيها.
وضعت الجثة على الحصان, وسار بها بشر مع المجموعة محاولا إيجاد المكان الملائم لدفنها بعد الصلاة عليها).
أقول: لا أدري من أين أتى كاتب القصّة بهذه المعلومات, حيث ذكر إبراهيم بن عفيصان وأنه شارك في الحرب مع أهل الرس, وهذا غير صحيح. لأنه توفي في عنيزة عام 1229هـ وسوف أورد نبذة عن إبراهيم بن عفيصان من كتاب (وجود ما قبل الوجود) الذي ألفه حمود بن متعب بن عفيصان. وطبعته (دار المأمون للتراث) لنعرّف القارئ بشيء عنه.
هو: إبراهيم بن سليمان بن عفيصان, تولى أمارة الأحساء في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد عام 1210هـ وقاد الحرب بين القوات السعودية وبين بني يأس والقواسم لغزو أراضي البريمي.
ثم صار أميرا على البحرين ثم قطر ثم عّمان ثم المدينة المنورة. وأخيرا صار أميرا على عنيزة حتى توفي فيها عام 1229هـ. لذا كيف يقول الكاتب بأن إبراهيم بن عفيصان مات في حرب الرس عام 1232هـ. ولذا يتبين كما ذكرنا سابقا بأنه أورد أسماء بعض الأفراد مثل سادلير وابن عفيصان وبشر ومتعب من أجل استكمال سيناريو القصة التي كتبها فقط.
وقال (تجولت المجموعة في مدينة الرس قليلا, شاهدوا في أثنائها جثثا لنساء وأطفال وشيوخ وقد قُطعت آذانهم أيضا).
وأقول: بأن هذا القول من الكاتب غير صحيح أيضا, لأن جنود إبراهيم باشا حاولوا كثيرا دخول بلدة الرس أثناء الحصار فلم يستطيعوا. ثم إن البند الثاني من بنود الصلح بين إبراهيم باشا وأهل الرس نص على ما يلي (2ـ لا يدخل المدينة أحد من القوات المصرية أو ضباطها).
ثم ألا يعلم الكاتب أن إبراهيم باشا عندما عجز عن اقتحام الرس وأنه أهدر كل ما معه من الأسلحة والذخائر أمام سور الرس الصلب وعندما عجز عن هدمه وافق على الصلح ليحفظ ما بقي من ماء وجهه. وأنه اعتذر لوالده بقوله (في خلال الأيام التي كنت فيها أمام قلعة الرس كان لدي الكثير من الذخائر والقنابل لأنني جهزت نفسي لكل ما يحتاجه هذا السفر دون نقص ولكن بناء تلك القلعة المنحوسة كان متينا ومستحكما من الأحجار الصغيرة وهي صعبة المُرتَقَى, وأن جدران الأبراج كانت 3 طبقات وكل طبقة تحتاج إلى 50/60 طلقة ولذلك صرفت قنابل كثيرة. وقد يكون هذا سوء تدبير).
كما قال (تملك الحزن الجميع , فلم يتمالك بشر نفسه, وتوجه بكلامه نحو رشوان آغا.
ـ إن جنودكم لم يتركوا شيئا في سبيل الحصول على المال, أنظر إلى جثث الأطفال والنساء, أليس هذا عيبا في عرف الجيوش؟.
اشمأز الآغا من السؤال وغضب:
ـ أغلق فمك وتمالك أعصابك يا رجل, لو لم تكن ضيفي لفعلت بك أكثر مما ترى, إنها الحرب, ألا تعلم معنى الحرب, هي أن تتجرد من كل معاني الإنسانية, لأنها لو بقيت معك لهزمك أعداؤك.
نظر سادلر إلى بشر محاولا التخفيف من غضبه, ثم ربت على كتفه ونظر إلى جثة ابن عفيصان, وكأنه يقول له: عليك أن تدفن جثة صديقنا).
أقول: وهذا الحوار بين بشر ورشوان آغا وسادلير جاء به الكاتب لإكمال سيناريو القصة فقط. أما قوله (أنظر إلى جثث الأطفال والنساء) فهذا غير صحيح البتّة. لأن أهل الرس بقدر ما كانوا يدافعون عن بلدتهم ويعملون على قهر إبراهيم باشا وجنوده فإنهم يحرصن كل الحرص على حماية النساء والأطفال وإبعادهم عن أتون الحرب. ولا أكثر دلالة على ذلك من أن الثابت بأن القتلى من أهل الرس (62) رجلا و(11) امرأة فقط. لأن النساء كنّ يساعدن الرجال في الحرب ويضمّدن الجرحى ويجلبن الماء والطعام للرجال ويلتقطن القذائف ويضعنها في قدور الماء الكبيرة لإطفائها.
وقال (كانت الرس مكانا غير قابل للسكنى, فقد خرجت الكلاب لتنهش الجثث, وهبطت العقبان من السماء لتشارك في الوليمة, ولم يُترك أي كائن حيّ في المدينة بعد أن خرج منها جيش إبراهيم باشا).
أفول: إذا كان ما قاله الكاتب بأنه لم يُترك أي كائن حي في المدينة صحيحا.. فكيف إذا تم الصلح؟ ومن الذي كان يفاوض الباشا فيه؟ ومن الذي وقّع عقد الصلح مع الباشا إذا لم يكونوا أهل الرس؟ وماذا عن حضور إبراهيم باشا صلاة الجمعة مع القاضي قرناس؟ وقال له (أنت ذئب وخطيب) وأفيد بأن الرس كانت عزيزة وبقيت حتى عامنا الحاضر قوية منيعة تفتخر بتاريخها المشرّف.. وأدعو الكاتب لزيارتها.
وقال (مع مغيب الشمس, كان بشر يصلي على ابن عفيصان في مكان ما في الصحراء, ثم وضعه في حفرة وأهال عليه التراب, ثم وضع حجرا على طرفي القبر ورفع التراب فوقه مقدار شبر, ولم يكتب اسما أو تاريخا, وبقي قبر إبراهيم بن عفيصان وحيدا في الصحراء).
وأقول: أراد الكاتب أن يكمل هذا الفصل من قصّته كأنه يرى بشرا يحفر القبر ويضع فيه جثة ابن عفيصان ويغمرها بالتراب ويضع الحجر على جانبها. ويتركها وحيدة في الصحراء. ولكني أقول: ليت الكاتب حدد لنا موقع جثة ابن عفيصان.. ولو كتب إحداثية الموقع لكان أكثر تحديدا.
وفي الفصل الثامن والثلاثين (ص309) تحت عنوان (معسكر إبراهيم باشا, الرس, الجزيرة العربية) قال:
(رجعت المجموعة إلى معسكر خارج الرس وكرر سادلر طلبه للقاء إبراهيم باشا , فوعده رشوان آغا بأن يرد عليه بأسرع وقت ممكن.
وفي المساء حين كان سادلر جالسا مع بشر في الخيمة ٍدخل عليهم رشوان آغا ليبشرهم بأن الباشا قد وافق على أن يتناول مع سادلر الفطور صباحا.
قال بشر لسادلر:
ـ إنك ستقابل الوحش غدا إذا ؟ لو كنت مكانك لأخفيت خنجرا تحت ردائي حتى أطعنه في صدره بعد أن فعل ما فعل في هذه البلاد).
أقول: ثم أكمل المؤلف بشكل قصة حوارية اللقاء بين سادلر وإبراهيم باشا وما دار بينهما حتى النهاية. ولكن ألا يعلم بأن كل كتب التاريخ لم تشر بأن سادلير كان مع إبراهيم باشا عندما وصل الرس وبدأ في حصارها. وأنه لقي الباشا في المدينة المنورة بعد الحرب.
كتبه الباحث: عبدالله بن صالح العقيل. الرس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق