أسباب عجز إبراهيم باشا عن الاستيلاء على الرس.. في أقوال الرحّالة سادلير ومانجان:
يقول زهير بن أبي سلمى:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجّم
والحروب: تعني القتل للإنسان, والدمار للديار. والجميع يعرف عواقبها وما تؤل إليه.
وبلدة الرس تعرضت في عام 1232هـ لعدوان غاشم من محمد علي باشا وأبنائه بحجة أنها مفتاح الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى. التي جاءوا للقضاء عليها. وقام إبراهيم باشا بإحكام الحصار على بلدة الرس لمدة ثلاثة شهور وسبعة عشر يوما من تاريخ:25/8/1232هـ حتى تاريخ: 12/12/1232هـ. وأؤكد بأنهم فشلوا في الاستيلاء عليها. بل إن إبراهيم باشا انهزم أمام عزيمة أهل الرس وعقيدتهم وقوة بأسهم, وأمام قلعة البلدة المحصّنة تحصينا جيدا حيث تحطمت داخل سورها قنابله وقذائفه التي كان يرسلها ليلا ونهارا من المدافع العملاقة.
ولهزيمة إبراهيم باشا في الرس أسباب عدة نجملها فيما يلي:
1ـ عدم توكّل إبراهيم باشا وجنوده على الله في أمورهم. بينما أهل الرس يعتبرون دفاعهم عن بلدتهم جهادا:
ـ قال الرحالة (فورستر سادلير) في مذكراته(رحلة عبر الجزيرة العربية) عام: 1819م. في (ص 146) إن إبراهيم باشا مصمم على أن يستولي على البلدة قبل أن يعطي إذنه بإقامة معسكره وقبل أن يترجل فرسانه عن خيولهم, لذلك أمر طوبشي باشا أن يدفع سلاح المدفعية إلى الأمام حتى يصل إلى بُعد ثماني خطوات عن الأسوار وأن يباشر الرشق المدفعي باتجاه أقوى المعاقل. ونظرا لكون جنوده مكشوفين ولتعرض رجال المدفعية إلى رشق كثيف من نيران الأسلحة الخفيفة فقد تجاوز القتل في الأتراك عشرة أضعاف ما قتل من المحاصَرين الذين دافعوا عن المدينة بمعنويات عالية.
وقال: رمى الرجال بأنفسهم في الخندق لكنهم لم يستطيعوا أن يصعدوا إذ تبين أن حزم العيدان والأكياس لم تكن كافية وفتح العدو نارا مدمرة من فوق الأسوار على الجنود وعلى المواد السريعة الاشتعال التي تحيط بهم, وصار الباشا بمعاونة مماليكه يرمي بالرصاص كل جندي يحاول الانسحاب. وكان نتيجة ذلك أن عانى المشاة التعساء من خسائر فادحة. وقد أصدر أمره بحرمان أولئك الذين قتلوا من حقهم من الدفن بسبب تأجج غضبه من الهزيمة.
2ـ كثرة القتلى من جنود الباشا:
ـ قال سادلير: وعندما رأى الباشا أنه عاجز عن إنجاز مهمته اضطر أخيرا إلى الدخول في مفاوضات وإلى رفع الحصار. وقتل في هذه المعركة تسعمائة تركي وجرح ألف وآلت بهم الأمور إلى محنة شنيعة. أما المحاصرون من سكان الرس فقد فقدوا خمسين قتيلا فقط وسبعين جريحا.
3ـ قوة ومتانة سور الرس وقلاعه:
ـ في وثيقة كتبها إبراهيم باشا إلى والده رقمها في وحدة الحفظ (15) تاريخ 1232هـ (القلعة المذكورة ذات متانة زائدة, كما أن عدد الملاعين الذين فيها كثير, ثم صار ذلك معلوما لعبدكم, فقد طالت أيام الحصار. وبينما كنت قلقا في حالة لا يقر لي معها قرار).
4ـ التخبط الذي أصاب إبراهيم باشا وجنوده من أثر قوة سور الرس وشجاعة أهله.
يقول الرحّالة (فيلكس مانجان) في كتابه(تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية) حتى عام: 1823م.
ـ قال (ص 140) عندما وصل إبراهيم باشا إلى الرس ومعه (4000) من الجنود المشاة و(1200) فارس وبدأ إطلاق النار على السور المحدق بالمدينة, كنا نرى القنابل تهدم البيوت وكان بعضها ينفجر قبل أن يكمل خط سيره المنحني, وبعد ستة أيام من القصف المستمر أمر إبراهيم باشا بالهجوم في الساعة الثانية ليلا, دون أن يحدث نقبا في السور يدخل منه المهاجمون, ودون أن تمتلك القوات المهاجمة أي وسيلة لمحاولة تسلق السور, ودون أن تقع عيونهم على حفرة عميقة وعريضة تقع بالقرب منه.
5ـ مشاركة نساء أهل الرس للرجال في الحرب. وكثرة القتلى في جنود الباشا:
ـ يقول مانجان: كانت النساء وراء الأسوار يشعلن سعف النخل الجاف المطلي بالصمغ, لإضاءة الميدان للمدافعين عنهم وكان إطلاق النار من البنادق مستمرا. لقد تصدى المحاصرون لهجوم الأتراك في كل المواقع, فاضطر هؤلاء إلى التراجع ولم نكن نرى إلا القتلى والجرحى. وقد أدى هذا الهجوم المميت الذي كان التخطيط له سيئا إلى إصابة 800 رجل بين قتيل وجريح.
6ـ كان أهل الرس يستخدمون كل الحيل لإفساد الهجوم عليهم:
ـ قال مانجان ص (142) (كان أهالي المدينة يدافعون عن أنفسهم بشجاعة ويقومون ببعض الغارات, ولما لم تكن لديهم الإمكانيات الكافية ولا الخبرة في فنون الحرب, فإنهم اكتفوا برد طلائع المهاجمين, والانقضاض على المدافع ليسدوا ثقوبها بالمسامير لتصبح غير صالحة للاستعمال, كانوا يهاجمون أعداءهم بالبنادق ذوات الفتيلة والرماح, وحينما رأى المحاصِِرون ما حل بهم فكروا بزرع ثلاث متفجرات ولكن المحاصََرون أبطلوا مفعولها).
7ـ الحرج الذي أصاب إبراهيم باشا بكثرة القتلى ونقص المؤن والذخيرة:
ـ قال مانجان (كان موقف إبراهيم باشا حرجا لأن ثلاثة آلاف رجل من رجاله لقوا مصرعهم عند أسوار الرس. ونفدت ذخائره وبدأ النقص في الأغذية, وكانت المجاعة تهدد بقية جيشه, وعلى الرغم من ذلك كله فإن إبراهيم باشا ظل محتفظا بموفقه الحربي).
ثم قال (وكانت الرياح العاصفة العاتية تثير عاصفة كثيفة من الغبار وتقلع الخيام وتكاد تسلب الجيش القدرة على التنفس. كان الجرحى في وسط هذه العاصفة يموتون متأثرين بجراحهم. وأسهمت المعنويات المنخفضة لدى الجنود الذين تأثروا كثيرا لما حدث, إسهاما كبيرا في انتشار الأمراض).
8ـ التصرفات المخالفة للعرف والدين التي يقوم بها جنود الباشا:
ـ يقول مانجان (كان جنود الباشا يقطعون رؤوس الجرحى ويعرضونها على أسوار الرس على مرأى من الذين هم تحت الحصار. وملأ هذا العرض الشنيع نفوسهم رعبا, وأصبحوا يتحرقون شوقا للانتقام. لقد جعلوا الأتراك يدفعون غاليا ثمن ذلك الانتصار الذي حققوه).
9ـ قوة بأس المجاهدين من أهل الرس ومن معهم وصيغة التحدي التي يجابهون بها إبراهيم باشا:
ـ قال مانجان (وعرض عبدالله بن سعود السلام على إبراهيم باشا شرط أن يرفع الحصار عن الرس, ولكن إبراهيم باشا استمع إلى ما يحمله المبعوثان وكان جوابه أن أنذر محمد بن مزروع أمير مدينة الرس بوجوب تسليم المدينة, فقال له الشيخ محمد الحنبلي " إن هذا ضرب من الخيلاء فأنت تهاجم الرس منذ زمن طويل ولن تستطيع الاستيلاء عليها" فاغتاظ إبراهيم باشا من هذا الكلام ولكنه جعل الشيخ بعد ذلك يندم على كلامه المهين. أما رد أمير الرس فكان بعبارات التهديد المشهورة "تعال خذها" واستؤنف القتال وخسر الأتراك بلا طائل كثيرا من الرجال والذخيرة.
10ـ الشروط التي كان يمليها إبراهيم باشا ويرفضها أهل الرس:
ـ قال مانجان: أرسل عبدالله بن سعود إلى إبراهيم باشا بمقترحات جديدة للصلح, ولكن الباشا طلب منه أربعة شروط:
ـ أن يدفع نفقات الحرب.
ـ وأن يدفع متأخر الرواتب للجنود.
ـ وأن يقدم ألفي جواد وثلاثة آلاف من الإبل ومؤنا تكفي الجيش ستة أشهر.
ـ وأن يرسل اثنين من أبنائه رهينتين لدى إبراهيم.
ولما سمع صالح بن راشد الحربي مبعوث عبدالله هذه الشروط المجحفة قال لإبراهيم باشا " إنك لا تتفاوض مع فلاح مصري وأن خصمك هو أمير نجد وحاكمها محارب شديد المراس, مشهود له بالشجاعة في المواطن كلها " فغضب الباشا من كلامه وانتقم منه. ولم يتوصل الطرفان إلى الاتفاق على شيء.
11ـ عدد القتلى من جنود الباشا والتحدي الذي أبداه أهل الرس كان له الأثر الكبير في نفسيته:
ـ وقال مانجان: عن عدد القتلى في الحرب: بلغ عدد القتلى الأتراك الذين سقطوا أمام أسوار الرس 3400 رجل. وأما الأهالي والحامية السعودية فقد قتل منهم 160 رجلا, وجُرح عدد قليل.
ـ وتحدث مانجان عن انتقام إبراهيم باشا من خصومه فقال (ص 179) وبعد رحيل عبدالله أمر إبراهيم بالقبض على الشيخين أحمد الحنبلي وصالح بن رشيد الذين سمحا لأنفسهما عندما جاءا إلى معسكره في الرس مبعوثين من عبدالله بمخاطبته بطريقة غير لائقة فأمر بخلع أسنان الأول ووضع الثاني على فوهة المدفع بعد أن أمر بضربه بالعصي).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخيرا: فقد وصف المؤرخ المصري الجبرتي (محمد بن حسن الجبرتي الحنفي) في تاريخه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) صلاح جيش أهل نجد وفساد جيش إبراهيم باشا) فقال في تاريخه ج 4/ص 140 وهو ينقل ما دار بينه وبين احد أكابر عسكر إبراهيم باشا لما قاتلوا النجديين.. فهو يصّور القضية فانظر ماذا يقول :
( ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدّعون الصلاح والتورع:
ـ أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة. وفيهم من لا يتدين بدين. ولا ينتحل مذهبا.
ـ وصحبتنا صناديق المسكرات.
ـ ولا يسمع في عرصاتنا آذان.
ـ ولا تقام بينهم فريضة.
ـ ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الإسلام).
فلما انتهى من وصف عساكر باشا انتقل للكلام عن النجديين فقال:
ـ والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون. وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد. بخشوع وخضوع.
ـ وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذنون. وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة.
ـ وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته).
وإبراهيم باشا على كل حال كان يكفّر النجديين كما نقل ذلك الجبرتي في تاريخه حتى تعلم أن المسألة لم تكن متوقفة على طرف دون آخر.
كما ورد في تاريخ الجبرتي ج4/ص 289 في حوادث 1233هـ وهذا الكلام.
(يجلس الكثير من جنود إبراهيم باشا في الأسواق يأكلون ويشربون ويمرون بالشوارع وبأيديهم أقصاب للدخان والتتن من غير احتشام ولا احترام لشهر الصوم, وفي اعتقادهم أن خروجهم بقصد الجهاد وغزو الكفار المخالفين لدين الإسلام .. ).
(يجلس الكثير من جنود إبراهيم باشا في الأسواق يأكلون ويشربون ويمرون بالشوارع وبأيديهم أقصاب للدخان والتتن من غير احتشام ولا احترام لشهر الصوم, وفي اعتقادهم أن خروجهم بقصد الجهاد وغزو الكفار المخالفين لدين الإسلام .. ).
كتبه الباحث: عبدالله بن صالح العقيل.
ــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق